فصل: الجملة الثالثة في طي الكتاب وختمه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الثانية في المكاتبات إلى أهل الكفر:

وللكتاب فيه أسلوبان:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلانٍ إلى فلان:
وعلى ذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أهل الكفر، وكان يكتب في مكاتباته صلى الله عليه وسلم: «السلام على من اتبع الهدى» بدل والسلام ويتخلص فيها بأما بعد تارةً، وبغيرها أخرى، وعلى ذلك جرى الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم، وخلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس ببغداد، ومن شاركهم في الأمر من ملوك بني بويه وبين سلجوق ومن في معناهم. وتختتم هذه المكاتبة تارةً بلفظ والسلام على من اتبع الهدى إن لم يذكر السلام في الأول، وتارة بغير ذلك.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بالدعاء:
كما يكتب كتاب الزمان أطال الله بقاء الحضرة الفلانية: حضرة الملك الفلاني أو أطال الله بقاء الملك الفلاني وما أشبه ذلك. وقد تقدم الخلاف في أصل جواز المكاتبة بالدعاء، وما قيل في الدعاء بطول البقاء وما في معناه، من الكراهة، وأن جماعةً من العلماء والكتاب أجازوه.
فإن قيل: على تقدير جواز ذلك في حق المسلم، فكيف يجوز في حق الكافر؟ فالجواب أنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم، استسقى فسقاه يهودي، فقال له: جملك الله، فما رؤي الشيب في وجهه حتى مات فقد دعا صلى الله عليه وسلم ليهوديٍّ بالجمال، وقد لا يكون في طول بقائه على الإسلام ضررٌ، بل قد يكون فيه نفع، كحمل جزية ونحوه، وإنما يمنع الدعاء له بالعز والنصر وما في معنى ذلك.
تنبيه اعلم أن الأجوبة قد تفتتح بما تفتتح به الابتداءات من الأساليب المتقدمة، ثم يؤتى بالأجوبة في أثنائها مثل أن يقال: وقد وصل كتاب المجلس أو الجناب أو وردت مكاتبته أو عرضت مكاتبته على أمير المؤمنين، أو على المسامع الشريفة وما أشبه ذلك. وقد يجعل الجواب ابتداءً، فيفتتح الكتاب بنحو: عرضت مكاتبتك على أمير المؤمنين مثلاً كما كان يكتب في الزمن المتقدم، أو عرضت المكاتبة الواصلة من جهة المجلس أو الجناب الفلاني على المسامع الشريفة أو وردت مكاتبته أو وصلت مكاتبته ونحو ذلك، ويؤتى على ما تضمنته المكاتبة وما اقتضاه الجواب عنه، ثم يؤتى في الاختتام بنظير ما يؤتى به في المكاتبة المبتدأة.

.الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها:

وفيه ست جملٍ:

.الجملة الأولى في الترجمة عن المكتوب عنه:

أما الترجمة عن السلطان، فقد ذكر ابن شيثٍ أن مصطلح الدولة الأيوبية أن يكتب لأرباب خدمته العلامة فإنها أليق به معهم. فإن أراد تمييز أحدٍ منهم، كتب له بخطه شيئاً مكان العلامة. وأن ترجمته للفقهاء والقضاة وذوي التنسك أخوه ولده. وذكر أن الأحسن أن يقال في ولده محل ولده لقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} أما أخوة فلا حرج عليه فيه: لقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوةٌ} وقوله: {فإخوانكم في الدين} وذكر أنه يترجم لهؤلاء من ولي الأمر أيضاً: المعترف ببركته والمتبرك بدعائه والمرتهن بمودته. وذكر أن الفقهاء وذوي التنسك يترجمون عن أنفسهم بالخادم ودون ذلك خادمه.
قال: وربما ترفعوا عن الترجمة بهذه اللفظة مطلقاً فقالوا: الخادم بالدعاء الصالح أو الخادم بدعائه. قال: وأهل الورع خاصةً يترجمون بالفقير إلى رحمة الله. وربما راعوا المترجم له مثل أن يكون ولي الأمر، فيقول: العبد الفقير إلى رحمة الله ويعني أنه عبد الله، ويحصل بذلك المقصود من الأدب مع السلطان. ومنهم من يكتب: الداعي لدولته والمبتهل بدعائه الصالح لأيامه والمواظب على خدمته بالدعاء وأمثال ذلك. قال: وأكثر الناس يرى الترجمة لولده، فإن ترجم له لم يسم اسمه لأنه ليس له والدان، ولا أقل من أن يكون بينه وبين من يكتب بوالده غير الأب هذا الفرق، فأما أن يقول: والده فلان بن فلان بحيث يذكر اسم أبيه فقبيحٌ. ثم قد كانوا في الزمن الأول يكتفون بذكر اسم المكتوب عنه في صدر الكتاب وعنوانه، نحو: من فلانٍ إلى فلان ثم أحدث الكتاب في أيام بني بويه وما بعدها تراجم رتبوها، بعضها أرفع من بعض.
وقد ذكر في ذخيرة الكتاب لذلك مراتب في الصدور والعنوان بعضها أعلى من بعض، فجعل أعلاها بالنسبة إلى المكتوب عنه أن يكتب اسمه، ودونه صديقه ودونه محبه ودونه شاكره ودونه المعتد به ودونه أخوه ودونه وليه ودونه عبده ودونه خادمه ودونه عبده وخادمه ودونه العبد ودونه العبد الخادم ودونه الصنيعة ودونه مملوكه ودونه المملوك ودونه المملوك الصنيعة. وهو الأعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه. ثم قال: ويتفرع من هذه الأصول فروعٌ كثيرة لا تحصر مما يختاره الكتاب ويقترحونه ويبتكرونه، ويكاتبون به أصدقاءهم وأوداءهم حسب ما يقتضيه موداتهم وتوجبه مصادفاتهم، كصفي مودته، والمفتخر بمحبته، والمعتمد على أخوته، وعبد مودته، وخادم مجده، وشاكر أياديه، وحامد تفضله، والمعتد بتطوله وما يجري هذا المجرى مما هو أوسع من أن يجمع وأكثر من أن يحصر، ولكنه أكثر ما يكون بين النظراء والأقران.
ورتب عبد الرحيم بن شيث في معالم الكتابة ترتيباً آخر، فذكر أن الترجمة إلى ديوان الخلافة من ذوي الولايات كلهم العبد ومن المملوك كلهم الخادم وأن الترجمة إلى المملوك من الأجناد كلهم المملوك مع النسبة إلى أشهر ألقاب الملك، كالناصري للناصر، والعادلي للعادل، وما جرى مجرى ذلك. ودون المملوك في الخضوع: عبده وخادمه ودونه العبد مفردة. ودونه مملوكه ودونه العبد الخادم، لأن الثاني كأنه ناسخٌ للأول، ودونه الخادم ودونه عبده ودونه خادمه ودونه شاكر إحسانه ودونه شاكر مودته ودونه وليه وصفيه ودونه محبه وواده وشاكره. ودونه الاسم، ودونه العلامة.
ثم قال: أما أصغر المماليك وما يجري مجراها، فلا يليق من الأجانب. ورأيت في دستورٍ صغير في المكاتبات يعزى للمقر الشهابي بن فضل الله، أن أكبر الآداب في اسم المكتوب عنه بالنسبة إلى المكتوب إليه المملوك ثم المملوك الرق ثم المملوك الأصغر ثم المملوك المحب ثم المملوك الداعي ثم مملوكه ومحبه ثم الخادم ثم خادمه ثم أخوه ثم محبه ثم شاكره ثم الفقير إلى الله تعالى. ولا يخفى ما في بعض هذه التراجم من التخالف بين ما ذكره وما تقدم ذكره عن ذخيرة الكتاب.
والذي استقر عليه الحال في زماننا في ترجمة العلامة بالقلم الشريف السلطاني أخوه ثم والده ثم الاسم، وفي حق غيره المملوك ثم الاسم. وربما كتب بعضهم العبد بدل الاسم تواضعاً، على أنهم قد اختلفوا في جواز الترجمة بالعبد والمملوك، فذهب بعضهم إلى منع ذلك، محتجاً بما روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن غلامي وجاريتي». والذي عليه العمل جواز ذلك احتجاجاً بقوله تعالى: {ضرب الله مثلا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيءٍ} والاستدلال به لا يخلو من نزاع، وقضاة القضاة يكتبون الداعي.

.الجملة الثانية في العنوان:

وفيه سبع لغات:
حكاها صاحب ذخيرة الكتاب. واقتصر في صناعة الكتاب على ذكر بعضها: إحداها عنوان بضم العين وواو بعد النون. والثانية عنيان بضم العين وياء تحتية بعد النون. والثالثة عنيان بكسر العين. والرابعة علوان بضم العين ولام بدل النون. والخامسة علوان بفتحها. والسادسة علوان بكسرها. والسابعة عليان بالكسر مع إبدال الواو ياء، ويجمع عنوانٌ على عناوين، وعلوان على علاوين. ويقال: عنونت الكتاب عنونةً وعلونته علونة، وعننته بنونين الأولى منهما مشددة تعنيناً، وعنيته بنون مشددة بعدها ياء تعنيةً، وعنوته أعنوه عنواً بفتح العين وسكون النون، وعنواً بضمهما وتشديد الواو.
واختلف في اشتقاقه، فمن قال عنوان، جعله مأخوذاً من العنوان بمعنى الأثر، لأن عنوان الكتاب أثربيان ممن هو وإلى من هو. قال النحاس: وأكثر الكتاب لا يعرف غير هذا، واحتجوا لذلك بقول الشاعر يذكر قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: [بسيط]
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وزعم بعضهم أن العنوان مأخوذ من قول العرب: عنت الأرض تعنو إذا أخرجت النبات، وأعناها المطر إذا أظهر نباتها. قال النحاس: فيكون عنوانٌ على هذا فعلاناً ينصرف في النكرة ولا ينصرف في المعرفة. وقيل هو مأخوذٌ من عن يعن، إذا عرض وبدا. قال النحاس: فعلى هذا ينصرف في النكرة والمعرفة لأنه فعلال.
ومن قال: علوان، أبدل من النون لاماً، كما في صيدلاني وصيدناني، فيكون الاشتقاق واحداً. وقيل علوان مشتقٌّ من العلانية، لأنه خطٌّ ظاهرٌ على الكتاب.
ومن قال: عنيان وعنيان، جعله من عنيت فلاناً بكذا إذا قصدته. قال في مواد البيان: والعنوان كالعلامة، وهو دالٌ على مرتبة بالمكتوب إليه من المكتوب عنه. والأصل فيه الإخبار عن اسمهما حتى لا يكون الكتاب مجهولاً، والمراد أنه يكتب فيه من فلان إلى فلانٍ أو لفلان من فلان قال: ولم يزالوا يكاتبون بأسمائهم إلى أن ولي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الخلافة ولقب بأمير المؤمنين، فكتب: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. ثم وقع الاصطلاح على العنونة للرؤساء والنظراء والمرؤوسين والأتباع بالأسماء، ثم تغير هذا الاسم أيضاً.
وكان المأمون يكتب في أول عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكانت تكتب قبل اسم المكتوب إليه والمكتوب عنه. وقد ذكر أبو جعفرٍ النحاس أن ذلك بقي إلى زمانه، وكان بعد الثلثمائة. قال في مواد البيان: ثم بطل بعد ذلك. قال: والأصل فيه أن يبتدأ باسم المكتوب عنه ثم باسم المكتوب إليه وهو الترتيب الذي تشهد به العقول، لأن نفوذ الكتاب من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه كنشء الشيء وخروجه من ابتداء إلى نهاية. فابتدأوه من المكتوب عنه، وانتهاؤه إلى المكتوب إليه، ولفظ من يتقدم لفظ إلى بالطبع، لأن حرف من ينبيء عن منشإ الشيء، وإلى حرف يخبر عن النهاية التي عندها قرار الشيء، والابتداآت في الأشياء قبل النهايات.
قال: وعلى هذا كانت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سلف من الأمم الماضية، ثم عرض للناس رأيٌ في تغيير هذا الرسم إلى غيره، ففرقوا بين مراتب المكاتبين من الرؤساء والعظماء والخدم والأتباع بتقديم اسم المكتوب إليه إذا قصدوا إعظامه وإجلاله وتأخير اسم المكتوب عنه، ورأوا أنه الصواب الصحيح. على أن كتاب زماننا يقتصرون في أكثر عنواناتهم على ذكر المكتوب إليه دون المكتوب عنه ولا يذكرون المكتوب عنه إلا في مكاتباتٍ خاصة قليلةٍ. قال في صناعة الكتاب: ولا يتكنى المكتوب عنه على نظيره، بل يتسمى له ولمن فوقه، ثم يقول: المعروف بأبي فلان. وإن كانت كنيته أشهر من اسمه واسم أبيه، جاز أن يكتب كنيته بغير ألف ويجريها مجرى الأسم. قال النحاس: وإن كان الكتاب إلى اثنين أحدهما أكبر من الآخر، فيقدم الأكبر، وكذلك لو كان إلى ثلاثة. قال أبو جعفر النحاس: وقد استحسن جماعةٌ أن يصغر اسم المكتوب عنه على عنوانات الكتب، ورأوا أن ذلك تواضعٌ، وما ذكره هو المستعمل في المكاتبات الجاري عليه حكم الدواوين إلى زماننا. والأصل في ذلك ما ذكره النحاس أن الحجاج بن يوسف، كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو خليفةٌ، في طومار: لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ثم كتب في طرته بقلمٍ ضئيل: من الحجاج بن يوسف، فجرى الكتاب على أسلوبه فيما بعد.
قال في معالم الكتابة: ولا يكثر النعوت ولا الدعاء على العنوان للسلطان ولا الكبراء، أما من الأعلى إلى الأدنى فحسنٌ. وقد تقدم في مقدمة الكتاب أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يعنون الكتب السلطانية، وأنها كانت لا تعنون قبل كتابة السلطان عليها علامته. والذي استقر عليه الحال في كتب السلطان وما في معناها من المشتملة على الألقاب أن تكتب الألقاب في العنوان، ويدعى فيها بدعوة واحدة وهي المفتتح بها المكاتبة.

.الجملة الثالثة في طي الكتاب وختمه:

أما طيه فمعروف، وهو أن يلف بعضه على بعض لفاً خاصاً. والطي في اللغة خلاف النشر، ويقال: طوى الكتاب يطويه طياً، ومنه قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} والترتيب في ذلك أن تكون الكتابة إلى داخل الكتاب، لأن المقصود صون المكتوب فيه.
ثم للناس في صورة الطي طريقتان: الطريقة الأولى أن يكون لفه مدوراً كأنبوبة الرمح، وهي طريقة كتاب الشرق من قديم الزمان وإلى الآن.
والطريقة الثانية أن يكون طيه مبسوطاً في قدر عرض أربعة أصابع مطبوقة، وعلى ذلك كان الحال جارياً في الدولة الأيوبية بالديار المصرية. فقد ذكر عبد الرحيم بن شيث من كتاب دولتهم، أن طي الكتب السلطانية، يكون عرض أربعة أصابع، وكذلك من العلية إلى من دونهم، أما الكتاب من الأدنى إلى الأعلى فلا يتجاوز به عرض إصبعين، وهذا ظاهر في أن الطي يكون عريضاً لا مدوراً، وهي طريقة أهل المغرب والروم والفرنج.
وأما ختمه، فالختم مصدر ختم، يقال: ختم الكتاب يختمه ختماً، ومعناه الطبع، ومنه قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} والمراد شد رأس الكتاب والطبع عليه بالخاتم، حتى لا يطلع أحدٌ على ما في باطنه حتى يفضه المكتوب إليه، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وهو أمر مطلوبٌ مرغب فيه، فمن كلام عمر رضي الله عنه: طينةٌ خيرٌ من ظنة، يعني أن ختم الكتاب بطينةٍ خيرٌ من ظنة تقع في الكتاب بالنظر فيه أو زيادةٍ أو نقص، والظنة التهمة. ومن كلام غيره: اختم تسلم. ومن كلام غيره: إن طينت وإلا وقعت. يعني إن طينت الكتاب وإلا وقعت في المحذور. ويقال: إن في ختم الكتاب تعظيماً للمكتوب إليه. قال بزرجمهر أحد ملوك الفرس: من لم يختم كتاباً فقد استخف بصاحبه، وجهل في رأيه. وقد قيل: إن أول من ختم الكتاب سليمان عليه السلام، وقد فسر قوله تعالى حكايةً عن بلقيس: {إني ألقي إلي كتابٌ كريمٌ} بأنه مختومٌ. وعلى نهجه في ذلك جرت ملوك العجم. قال في مواد البيان: ولم تزل كتب العرب منشورة حتى كتب عمرو بن هندٍ الصحيفة إلى المتلمس، فقرأها ولم يوصلها، فختمت العرب الكتب من حينئذٍ. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى بعض العجم فقيل له: يا رسول الله، إنهم لا يقرأون كتاباً غير مختومٍ، فأمر أن يتخذ له خاتم حديدٍ، فوضعه في إصبعه، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: انبذه من إصبعك، فنبذه وأمره أن يتخذ له خاتم نحاسٍ فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال: انبذه من إصبعك فنبذه، ثم أمر أن يتخذ له خاتمٌ، فاتخذ له خاتمٌ من فضة فختم به، وكتب إلى أن من أراد أن يكتب من الأعاجم، ونقش عليه محمدٌ رسول الله ثلاثة أسطر، وكان الخاتم في يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى قبضه الله تعالى، ثم تختم به أبو بكر رضي الله عنه حتى قبض، ثم تختم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قتل، ثم تختم به عثمان رضي الله عنه، فبينما هو ذات يومٍ على بئر أريس من بئار المدينة، إذ عبث بالخاتم فسقط من يده، فنزح كل ما كان في البئر من الماء فلم يوجد، فلما يئس منه أمر أن يصاغ له خاتمٌ مثله وينقش عليه محمد رسول الله ففعل ذلك وتختم به. هكذا أورده صاحب ذخيرة الكتاب وبعضه في الصحيح. وقيل: إن نقش الخاتم الذي اتخذه كان آمنت بالذي خلق فسوى. وقيل: كان نقشه لتصبرن أو لتندمن.
ثم كان لكل من الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه خاتمٌ يختم به، عليه نقشٌ مخصوصٌ، فكان نقش خاتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الملك لله الواحد القهار ونقش خاتم ابنه الحسن لا إله إلا الله الملك الحق المبين ونقش خاتم معاوية بن أبي سفيان لكل عملٍ ثوابٌ وقيل: لا قوة إلا بالله ونقش خاتم يزيد بن معاوية ربنا الله ونقش خاتم معاوية بن يزيد الدنيا غرور ونقش خاتم مروان ابن الحكم الله ثقتي ورجائي ونقش خاتم عبد الملك ابن مروان، آمنت بالله مخلصاً، ونقش خاتم الوليد بن عبد الملك يا وليد، إنك ميت ومحاسب! ونقش خاتم عمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله. ونقش خاتم يزيد بن عبد الملك قني السيئات يا عزيز ونقش خاتم هشام بن عبد الملك الحكم للحكم الحكيم ونقش خاتم الوليد بن يزيد يا وليد احذر الموت ونقش خاتم يزيد بن الوليد يا يزيد قم بالحق ونقش خاتم إبراهيم بن الوليد توكلت على الحي القيوم ونقش خاتم مروان بن محمد اذكر الله يا غافل.
وكان نقش خاتم السفاح، أول خلفاء بني العباس، الله ثقة عبد الله ونقش خاتم المهدي حسبي الله ونقش خاتم الرشيد العظمة والقدرة لله. وقيل: كن من الله على حذر ونقش خاتم الأمين محمدٌ واثقٌ بالله ونقش خاتم المأمون سل الله يعطيك ونقش خاتم المعتصم الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن ونقش خاتم الواثق الله ثقة الواثق ونقش خاتم المتوكل على الحي اتكالي ونقش خاتم المنتصر يؤتى الحذر من مأمنه ونقش خاتم المستعين في الاعتبار غناء عن الاختبار ونقش خاتم المعتز الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء ونقش خاتم المهتدي من تعدى الحق ضاقت مذاهبه ونقش خاتم المعتمد السعيد من وعظ بغيره ونقش خاتم المعتضد الاضطرار يزيل الاختيار ونقش خاتم المكتفي بالله علي بن أحمد يثق ونقش خاتم المقتدر بالله الحمد لله الذي ليس كمثله شيءٌ وهو خالق كل شيءٍ ونقش خاتم القاهر محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقش خاتم المتقي المتقي لله كلقبه للخلافة، ونقش خاتم المستكفي المستكفي بالله يثق ولم أقف على نقش خاتم أحد من الخلفاء غير هؤلاء.
واعلم أنه كان للختم في أيام الخلفاء ديوانٌ مفرد يعبر عنه بديوان الخاتم. وقد اختلف في أول من اتخذ ديوان الخاتم، فروى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لم يكن أبو بكر ولا عمر يلبسون خواتم ولا يطبعون كتاباً، حتى كتب زياد بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنك تكتب إلينا بأشياء ليست لها طوابع، فاتخذ عند ذلك عمر طابعاً يطبع به، وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم.
ومقتضى ذلك أن يكون أول من اتخذ الختم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويكون لبسه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لغير الختم. وذكر الطبري في تاريخه: أن أول من اتخذ ذلك معاوية بن أبي سفيان في خلافته، وذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألفٍ من عند زياد، ففتح الكتاب وجعل المائة مائتين، فلما رفع زيادٌ حسابه أنكر ذلك معاوية، وطلب عمراً فحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير واتخذ معاوية حينئذ ديوان الختم، وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم. قال القاضي ولي الدين بن خلدون في تاريخه: وديوان الختم عبارةٌ عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان. قال: وهذا الخاتم خاصٌّ بديوان الرسائل، وكان ذلك للوزير في أيام الدولة العباسية. ويشهد لذلك قول الرشيد ليحيى بن خالدٍ لما أراد أن يستوزر جعفراً، ويستبدل به من الفضل أخيه: إني أحول الخاتم من يميني إلى شمالي، فكنى بالخاتم عن الوزارة، لانضمام ديوان الرسائل إلى الوزير إذ ذاك، ثم اختلف العرف بعد ذلك، فصار ليس إليه الرسائل في الدولة.
ثم للختم ثلاث صور: الصورة الأولى أن يلصق رأس الكتاب بنوع من أنواع اللصاق، كالكثيراء المدافة بالماء، والنشا المطبوخ ونحو ذلك. وهذا هو المستعمل بالديار المصرية وبلاد المشرق من قديم الزمان وهلم جراً إلى زماننا، والمستعمل بالدواوين هو النشادون غيره، لنصاعة بياضه وشدة لصاقه. قال في مواد البيان: ويجب أن يكون اللصاق خفيفاً كالدهن لئلا يتكرس ويكثف في جانب الورق. وقد كانت عادتهم في بلاد المشرق أيام الخلفاء أن يختم به بخاتم الخليفة، بأن يغمس في طين معد لذلك أحمر الصبغ، ويختم به على طرفي اللصاق، ليقوم مقام علامة الخليفة. وكان هذا الطين يجلب إليهم من سيراف من بلاد فارس، وكأنه مخصوص بها، وعلى نهج الخلفاء جرى الملوك حينئذ. والذي آستقر عليه بالديار المصرية ونحوها من بلاد الشرقية الاقتصار على مجرد اللصاق آكتفاء بما فيه من الضبط وظهور فضه إن فض. وهذه مسألة مما سأله الشيخ جمال الدين بن نباته كتاب ديوان الإنشاء بدمشق مخاطباً به لشيخ جمال الدين محمود الحلبي فقال: ومن ختم الكتاب بالطين وربطه؟ ومن غير الطين إلى النشا وسائر أنواع اللصاق في الكلام في على آلات الدواة في المقالة الأولى.
الصورة الثانية أن يحزم الكتاب من وسطه بالأشفار حتى تنفذ في بعض طيات الكتاب ثم الكتاب ثم تخرج من الورق أيضاً، ويدخل فيه دسرة من الورق كالسير الصغير ويقط طرف الدسرة، ثم يلصق على ذلك بشمع أحمر، ثم يختم عليه بختم يظهر نقشه فيه، ويسمى هذا النوع من الختم الخزم بالخاء والزاي المعجمتين أخذاً من خزم البعير، وهو أن يثقب أنفه ويجعل فيه خيط أو نحوه.. ولعل هذه الطريقة من الختم في صدر الإسلام، ويدل على قول ابن عمر رضي الله عنه في رواية الطبري المتقدمة: وخزم الكتاب ولم يكن قبل يحزم. وعلى هذا الآن أهل المغرب والروم والفرنج ومن في معناهم.
الصورة الثالثة أن يلف على الكتاب بعد طيه قصاصة من الورق كالسير في عرض رأس الخنصر، وتلف على الكتاب ثم يلصق رأسها، ويكون ذلك في الرقاع الصغيرة المترددة بين الإخوان وتسمى القصاصة التي يلصق بها سحاءة بفتح السين وبالمد، وتقال بكسر السين أيضاً، وربما فيل سحاية، ويقال فيه: سحوت الكتاب أسحوه سحواً، وسحيته بالتشديد أسحيه تسحيه فهو مسحو ومسحي ومسحى، والأمر من سحوت الكتاب أسح، ومن سحيته بالتشديد سح، وأصله من السحو وهو القشر. يقال: سحوت اللحم عن العظم إذا قشرته.